عرفت الدورة التاسعة لجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة، فوز ثلاثة مغاربة وسوري وعراقيان. وقد كنتم عضوا بلجنة التحكيم. لذلك نود أن نطرح عليكم بعض الأسئلة في هذا الشأن.
1ـ ما هي مقاييس انتقاء الأعمال الستة الفائزة بجائزة ابن بطوطة في دورتها التاسعة؟
أشير بداية إلى أنني شرُفت في هذه اللجنة بأن كان اسمي إلى جوار اسم ثلة من كبار المفكرين العرب وهم: خلدون الشمعة والطايع الحداوي ومفيد نجم ونوري الجراح. أما بخصوص المقاييس المتَّخذة في تحكيم الأعمال المقدمة للجائزة، فتختلف باختلاف طبيعة المواد المقترحة. فـ"جائزة التحقيق" مثلا لا يحصل عليها إلا من قدم تحقيقا رصينا لعمل رحلي له أهميته في الثقافة العربية، بحيث يشكل إضافة نوعية لا تخلو من جدة وجدية وطرافة وتنقيب عن مخطوطات ووثائق غميسة ذات قيمة ووقع. والشروط الأكاديمية للتحقيق العلمي معروفة. وهي تكاد تتفق في جزء منها مع شروط البحث والدراسة الأكاديميين، لذلك فإن "جائزة الدراسات" بدورها خضعت لهذه الصرامة في التصنيف والانتقاء. ولهذا أجمعت اللجنة على منح هذه الجائزة لباحثة مغربية هي مليكة نجيب عن دراسة حول: (المرأة تمثلا وتمثيلا في الرحلة السفارية المغربية خلال القرنين 18 و19م)، لما تميزت به هذه الدراسة ـ التي هي في الأصل أطروحة جامعية ـ من جدة في الموضوع، وصرامة في المنهج، وقوة باهرة في التحليل. ولعل العناصر الثلاثة المذكورة من النقط الأساس في فرز الأعمال المقترحة لنيل جائزة الدراسات الرحلية. أما "جائزتي اليوميات والرحلة المعاصرة"، فلا ينالها إلا المبدع الذي حقق اشتغالا فائقا على اللغة والصورة والتكنيك السردي والحفر الأركيولوجي في تمثيلية الذات والآخر، واستكشاف آفاق وجغرافيات لها جدتها وطرافتها. فالعراقي باسم فرات مثلا نال جائزة الرحلة المعاصرة باستكشاف جغرافيات جديدة على المخيال العربي كالإكوادور.
2ـ لماذا ضمت لجنة التحكيم باحثين من سوريا والمغرب فقط؟ هل لأن المهتمين بأدب الرحلة منحصرين في هاذين البلدين أم أن هناك معايير معتمدة في اختيار لجنة التحكيم؟
اختيار لجنة تحكيم الدورة التاسعة من أعضاء سوريين ومغاربة ليس سنَّة مؤكدة، فالأصل هو تنويع جغرافيات ومشارب اللجنة. وهنا أشير ـ على سبيل المثال ـ إلى أنني كنت في الدورة الأولى المنعقدة سنة 2003 إلى جانب أسماء من المغرب (شعيب حليفي) وتونس محمد (لطفي اليوسفي) وسوريا (علي كنعان) والعراق (شاكر لعيبي). وإدراج أسماء المغاربة ضمن لجنة التحكيم، يعطي ألَقا وقوة ومصداقية للجائزة؛ لأن "حفدة ابن بطوطة"، كما يحلو لصديقي الشاعر السوري الكبير نوري الجراح أن ينعت المغاربة، هم أسياد هذا الميدان على مستوى الإنتاج الرحلي غزارةً ونوعية. فخزاناتنا الخاصة والعامة تطفح بالمصنفات والمخطوطات القيمة في مختلف عصور تاريخ المغرب. وهناك الكثير منها يحتاج إلى نفض الغبار عنه، والعديد منها وجد في همَّة الباحثين الشباب من المغاربة وغيرهم سبيلا لتخرج إلى النور. وما تزال الجامعات المغربية كل سنة تأتي بجديد التحقيقات والدراسات والترجمات في مختلف التخصصات: علم الاجتماع، الأدب، التاريخ، التحليل النفسي، تحليل الخطاب، تاريخ الفكر...وما يزال كتابنا المغاربة من الشباب وغيرهم يولون عناية خاصة لهذا الجنس تأليفا وإبداعا، ولائحة الأسماء هنا تند عن الحصر. وهي أسماء لها مكانتها، وتحظى بالاحترام في خريطة الأدب المغربي المعاصر. وأصدقكما القول إن النقاد المغاربة لهم الريادة اليوم في مجال "نقد الرحلة"، ويكفي أن أذكر هنا أسماء وازنة من قبيل: عبد الهادي التازي، فاطمة خليل، عبد الرحيم مؤذن، سعيد بنسعيد العلوي، واسطي بوسيف، شعيب حليفي، الطائع الحداوي، محمد الحاتمي، بوشعيب الساوري، محمد مكامان، الحسن الشاهدي، مليكة الزاهدي، للتدليل على تنوع المقاربات وخصوبتها.
3ـ ما رأيكم في الشأن الثقافي العربي بشكل عام، والمغربي على الخصوص؟
الشأن الثقافي يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية، وفق مخطط مدروس، وإستراتيجيات واضحة المعالم. ونحن في أوطاننا العربية نفتقر إلى هذا كله. إننا لا نغدق على الثقافة والفنون، كما نغدق على كرة القدم والسفاسف والتفاهات وبعض المهرجانات التي نحن غير مقتنعين بجدواها. ويكفي النظر إلى ميزانيات وزارات الثقافة في أوطاننا لنعرف حجم الكارثة التي تتربص بنا. الشأن الثقافي آخر شيء يفكَّر فيه في عواصمنا. يصيبنا الخجل حين نتحدث عن عدد الجوائز الثقافية وحجمها وقيمتها في بلداننا؟ ويصيبنا الدوار حين نتحدث عن جمعيات ثقافية ذات نفع عام، لم يعد لها نفع وقد تم الدفع بها لتكريس ثقافة الاستجداء. يكفي أن أشير إلى تجربتي الشخصية للعبرة والاذِّكار حينما كنت على رأس المكتب الجهوي لنقابة الأدباء والباحثين المغاربة أو على رأس اتحاد كتاب المغرب ـ فرع أكادير فقد مرّ على هذه التجربة الأخيرة ثلاثة رؤساء مجالس بلدية، ولم أظفر منهم بمقر للفرع يجمع أرشيفنا، ويمكننا من عقد اجتماعاتنا، وتحقيق برامجنا وطموحاتنا التي لا تحظى بما تستحقه من دعم. مدينة يتسع صدرها للسياحة والملاحة والفلاحة، وتضيق ذرعا بما كان يحلو لعميدنا الدكتور حسن بنحليمة أن يسميه ـ تندُّرا ـ بـ"الثقاحة"، حتى تُضاف إلى الحاءات الثلاثة السمينة، هذه الحاء الرابعة العجفاء.
4ـ كيف ترون مستقبل أدب الرحلة بالمغرب؟
كل سنة تظهر أسماء جديدة في الإبداع والنقد الرحليين. وأذكر هنا باعتزاز أسماء: عبد الكريم الجويطي، أحمد شراك، عبد العزيز الراشدي، محمد اشويكة...وأنا متفائل بقيمة ما يُنتج اليوم إبداعا ونقدا في هذا المجال. وسيكون للمغاربة الكعب المعلى فيه، بحكم القيمة النوعية لما يصدر.
5ـ ما رأيكم بالأعمال الفائزة؟
الأعمال الفائزة استحقت الجائزة، لأن لجنة التحكيم أجمعت على قيمة مستواها الفني والإبداعي والعلمي، وعلى إضافتها النوعية للمخيال العربي. وهذا لا يعني أن الأعمال الأخرى التي لم تجد طريقها إلى التتويج تقل عنها شأوا، ولكن سُنّة الاختيار تقتضي حصر الجائزة في عدد محدود، وإلا فإنني أهيب بدور النشر والمهتمين والغيورين على الشأن الثقافي أن يدعموا مركز "ارتياد الآفاق" بنشر الأعمال المقدمة للجائزة، وإعادة طبع ما نشر من روائع هذا الأدب والاحتفاء به، وخلق جوائز وطنية موازية.